بعد عرض تلك الوثيقة العنصرية ليس إلا لرفضها أيا كان كاتبها أو قائلها أو الآخذون بها علق الزميل ابن عبد العزيز و أورد نقدا مهما لسند هذه الوثيقة و رأيت أن إيرادها هنا مهم و مثير للشك بمن وضعوا مناهجنا الدراسية و التساؤلِ عن مدى معرفتهم برسالة محمد صلعم. قلت فيما سبق أني سألت أحد إخوتي بعد عودته من المدرسة عما كان في درس الدين فقيل لي(ببراءة طفل) بأن اليوم كان عن أهل الكتاب و ان عليهم دفع الجزية لنا و و و و !!
أكرر شكري لإبن عبد العزيز.
مداخلة في مؤتمر الفكر العربي عبر التاريخ الذي تعقده "الجمعية المصرية للدراسات التاريخية" أيام 27- 29 أبريل 2004.
يعيد المؤرخ المصري د. عبادة عبد الرحمن كحيلة عن صواب أسباب تخلف المجتمعات العربية إلى عوامل عدة أحدها غياب العقلانية: "في تعاملنا مع واقعنا وفي تعاملنا مع الأصول المكونة لهذا الواقع (..) أضفينا على بعض نصوصه قداسة لا تستحقها وعطلنا عقولنا عن التعامل مع هذه النصوص".
إقرأها كاملةً
بهذه العقلانية النادرة في العالم العربي يشرع د. كحيلة في تفكيك "عهد عمر" الذي قام عليه فقه الذمة ليحلله "في ضوء العقل والنقل معاً" كما يقول ليبين أنه منحول على عمر.
يؤكد د. عبادة أن القليل من الفقهاء والمؤرخين المحدثين (راودهم الشك في صحة هذا العهد) لكنهم وقفوا عند حد المراودة إيثاراً للسلامة كما قال والبعض من هذه القلة جاوز المراودة وتحرى زيف العهد العمرى ورفضه ولكنه لم يدعم رفضه بتحليل تاريخي مقنع كما فعل المؤرخ د. كحيلة.
عهد عمر كما يقول مؤرخنا يقع على تخوم التاريخ الإسلامي والفقه الإسلامي مما يجعله يتسع لعمل المؤرخ والفقيه . لا يناقش كحيلة سبب أو أسباب فقدان الوثائق الأصلية لفترة النبوة والخلفاء الراشدين لكنه يعيد بعضها، على سبيل الترجيح، إلى حرق الديوان إبان ثورة عبد الرحمن الأشعث ومعركة دير الجماجم سنة 82 هـ. وفي ذلك يقول أبو يوسف: "فلما كانت الجماجم أحرق الناس الديوان فذهب ذلك الأصل ودرس [اندثر]" وهذا جعل الوثائق الأصلية التي بين أيدينا نادرة والوثائق المنتحلة وفيرة.
يقول المؤرخ د. كحيلة:" يصعب علينا أن نورد نصاً محدداً في عهد عمر، فقد وردت نصوص عديدة منه في كتب الفقه والتاريخ والأدب".
يورد المؤلف نص العهد المنسوب لعمر حين صالح نصارى الشام: "وشرط عليهم فيه ألا يُحدث في مدينتهم ولا فيما حولها، ديرٌ ولا كنيسة (..) ولا صومعة راهب ولا يُجدد ما خرب، ولا تمنع كنائسُهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يأووا جاسوساً، ولا يكتموا غشاً للمسلمين ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركاً (..) ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم ولا يَكتنوا بكناهم، ولا يركبوا مُسرّجاً، ولا يتقلدوا سيفاً، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا مقادم رؤسهم، وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا وأن يشددوا الزنانير [الأحزمة] على أوسطهم، ولا يظهروا صليباً، ولا شيئا من كتبهم في شيء من طرق المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفيفاً، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم، ولا يظهروا النيران معهم، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت فيه سهام المسلمين، فإن خالفوا شيئاً مما شرطه فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم ما يحل لأهل المعاندة والشقاق" ص 19، ثم يورده بصيغة ثانية كتبها النصارى بأنفسهم:" شرطنا لكم على أنفسنا " يقول عبادة أن مواقف المؤرخين المحدثين تراوحت بين القبول بنسبة هذا العهد إلى عمر و إنكار هذه النسبة. من بين ما قبلوه هذا العهد المؤرخ الأسباني سيمونيت F. J. SIMONET كما قبل به بعض المؤرخين العرب وتعجبوا من إنكار البعض له أو "الاعتذار لأهل الكتاب عما حصل من الخلفاء الراشدين ومن تبعهم من وضع الشروط على أهل الذمة (..) وصدق الفاروق (..) إذ قال: لا تَعزّوهم وقد أذلهم الله". كما يذكر بعض المؤرخين الذين أنكروا نسبة هذا العهد إلى عمر أولهم مويرMUIR وأخرهم تريتونA. S. TRITTON الذي فند في كتاب له صدر في 1930 نسبة العهد إلى عمر قائلاً أن العهد يُنسب إلى عمر تارة وينسب تارة أخرى إلى قائده عبد الرحمن ابن عنم، ولم يذكر فيه اسم المدينة التي اشترط فيها النصارى على أنفسهم هذه الشروط الظالمة ، ويستغرب أن يشترط المغلوبون على الغالبين كما أن العهد لا يشبه سائر العهود التي أمضاها المسلمون في بلاد الشام ويلاحظ أنه لا وجود لتطبيق هذا العهد في حياة عمر، ويستنتج أخيراً أن هذا العهد تم انتحاله في المدارس الفقهية بعد سنوات طويلة من موت عمر.
هذا الرأي يتبناه د. كحيله الذي يري أن عهد عمر لم يصدر عن عمر ولا في عهد عمر، مبرهناً على ذلك بنقد الأسانيد الأربعة لهذا العهد قائلاً: "إذا نحن راجعنا أسماء رجال السند نجد أن بعضهم لا يعد من الثقات أو أنهم من المجاهيل". يقول د. كحيله: "يتضح لدينا أن المسانيد الأربعة تشوبها شوائب ونعلم أن الإسناد له مكانة خاصة عند الفقهاء ووثاقته من وثاقة المتن" ثم يحلل تاريخياً سيرة عبد الرحمن ابن غنم (راوي العهد وكاتبه في معظم الروايات) ولا نعلم الكثير عن حياته (..) يترجح لدينا أنه لم يكتب هذا العهد ولم يروه، لسبب بسيط هو أنه استقر على نحو دائم في بلاد الشام حيث قضي معظم سنوات عمره المديد. والأكثر من ذلك أن المصادر حين تتحدث عن كُتاب عمر رضي الله عنه لا تذكر بينهم عبد الرحمن ابن غنم، وكان جديراً بها أن تذكره، إذا كان هو الذي كتب العهد، لما له من أهمية وإذا كان ابن غنم هو الذي روي هذا العهد أو كتبه أو صاغ شروطه فلابد أن يكون من قواد المسلمين الكبار في فتوح الشام والجزيرة، ولم يكن هو أحدهم". يواصل د. كحيلة نقده التاريخي الدقيق لنسبة العهد إلى ابن غنم فيقول: "إذا كنا قد استبعدنا علاقة ما بين عبد الرحمن ابن غنم وهذا العهد، فلماذا إذن نسب إليه ؟ نرجح أنه لربما يكون الأمر قد اختلط على أجيال من المؤرخين والفقهاء بين عبد الرحمن ابن غنم الأشعري (ت 78هـ) وبين عياض بن غنم الفهري (ت 20 هـ) وعياض بن غنم رضي الله عنه صحابي جليل شارك في فتوح الشام وولاه أبو عبيدة (ت 18 هـ) فتوح الجزيرة وأقر عمر ولايته ومات في سنة 20 هـ، لدينا كتاب عياض إلى أهل الذمة من بلاد الجزيرة وهو كالأتي (..) هذا ما أعطي عياض ابن غنم أهل الرق يوم دخلها، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم، لا تُخرب ولا تُسكن، إذا أعطوا الجزية التي عليهم ولم يحدثوا مغيلة [غدراً] وعلى أن لا يحدثوا كنيسة ولا بيعة ولا يظهروا ناقوساً ولا باعوثاً ولا صليباً". يلاحظ د. كحيلة أن الجزء الأخير من هذا العهد شبيه بما جاء في العهد المنسوب لعمر. كما يلاحظ بأن هذا الجزء الذي يحظر على أهل الذمة بناء الكنائس إلخ، لا وجود له في معظم العهود الأخرى مع أهل الذمة.
ثم ينتقل من نقد الأسانيد إلى نقد متن العهد ذاته فيلاحظ بأنه "حافل بالتناقضات أول هذه التناقضات في تحديد شخص الكاتب، فهو ابن غنم في معظم صور العهد وهو عمر أو أهل الجزيرة أو مدينة كذا وكذا في صور أخرى". التناقض الثاني في لغة الخطاب فالعهد في معظم الروايات صادر من المغلوب وليس من الغالب والعادة، كما يقول د. كحيلة، أن الغالب هو الذي ينسب إليه الخطاب. التناقض الثالث في شخص المغلوب فهو مرة نصارى الشام أو أرض الشام أو أهل الجزيرة أو نصارى أهل الشام ومصر أو نصارى مدينة كذا أو بلد كذا .. الخ. وتناقض رابع في تحديد المخاطِب فهو عمر في معظم صور العهد، وهو ابن غنم في بعضها؛ وهناك تناقض خامس وهو أن المغلوبين شرطوا على أنفسهم شروطاً غاية في القسوة والإذلال وهو كما يقول د. كحيلة: "ما يتعارض مع منطق العهود .. فالشرط يضعه في العادة الغالب ويلتزم به المغلوب". ويوجد تناقض سادس حيث اشترط النصارى على أنفسهم عدم بيع الخمور . وهذا الشرط يتناقض مع ما ورد عن عمر نفسه، كما يقول د. كحيلة، من أنه أقر بأخذ العُشر على خمور أهل الذمة، ماداموا هم الذين يبيعونها، أي أنه أقر لهم بيعها (انظر ابن قدامة). وهناك تناقض سابع هو شرط النصارى على أنفسهم: "ولا نضرب أحداً من المسلمين" يقول د. كحيلة معلقاً: "وهذا لا يتلاءم مع روح العصر فكيف يتعهد مغلوب بعدم ضرب غالب. ثم إن ضربه للمسلم .. ينتقض العهد (..) أي أن يصير الذمي من أهل المعاندة والشقاق أي يسفك دمه، ولم يرد في القرآن الكريم ولا في الحديث الشريف - وهما المرجعان الأساسيان - ما يجعل عقوبة الذمي الذي يضرب مسلماً سفك دمه". يلاحظ أيضاً د. حكيلة أن كلمتي زنانير وقلاية اللتين وردتا في العهد كلمتان أعجميتان عربتا في مرحلة لاحقة عن المرحلة التي يفترض أن العهد كتب فيها بعد أن اختلط العرب بالأعاجم.
يقارن د. كحيلة العهد المنسوب إلى عمر بعهود النبوة والخلافة الراشدة ليوضح أن العهد العمري يختلف عنها من جوانب شتي؛ أولها أن هذه العهود في معظمها قصيرة فصلح الحديبية مثلاً من ستة أسطر؛ ثانياً: أن كل عهد يتضمن حقوقاً وواجبات والحال أن العهد العمري يفرض على المسيحيين واجبات ولا يعترف لهم بأية حقوق بينما عهود عصر الفتح اعترفت للمغلوبين بحقوقهم مثلاً عهد خالد بن الوليد لأهل دمشق الذي "أعطاهم أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم ولا يُسكن شيء من دورهم" وفي عهد خالد أيضاً لأهل عانات اعترف لهم بالحقوق التالية: "لا تهدم لهم بيعة ولا كنيسة وأن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلوات، وعلى أن يُخرجوا الصلبان في أيام أعيادهم"، بل إن عهد عمر لأهل القدس اعترف لهم بحقوق منها أنه "أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم ولصلبانهم وأن لا تُسكَن كنائسُهم ولا تُهدَم ولا يُنتقص منها ولا من حيزها [مساحتها] ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم ..".
يلاحظ د. عبادة عبد الرحمن كحيلة أنه في جميع هذه العهود تم التنصيص للمغلوبين على "عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين" كما ترد أسماء الشهود على العقد أو عبارة شهد الله، كما أن بعض هذه العهود مؤرخة ولا أثر لذلك في العهد المنسوب لعمر. هذا العهد الذي قام عليه فقه الذمة في الإسلام لم يذكره كبار مؤرخي الإسلام كالواقدي والأزدي والبلاذري والطبري كما لا نجده في سيرة عمر لابن الجوزي ولا في كتب الفقهاء المسلمين الأوائل. وأقدم كتابين ذكرا عهد عمر هما كتاب "المحلي" لابن حزم (ت 456 هـ) وكتاب "السنن الكبير" للبيهقي (ت 458 هـ) أي بعد أكثر من أربعة قرون من كتابة هذا العهد المزعوم. يؤكد د. كحيلة عدم صحة ما ذكره برنارد لويس من أن عهد عمر ورد في كتب غير المسلمين. لكن المصادر المسيحية التي عاد إليها المؤرخ المصري لا أثر فيها لهذا العهد.
يتساءل أبو أدهم المؤرخ عبادة عبد الرحمن كحيلة: "إذا لم يكن عمر قد أصدر عهد عمر فلماذا إذن نسب إليه هذا العهد ؟".
يرد ذلك إلى أسباب: ارتباط عهد عمر بالفتوح وبالتالي بوجود كثيف لغير المسلمين في الأمصار المفتوحة وما عرف به عمر من شدة في سياسته وإلى كون عمر مرجعاً للفقهاء في باب الجهاد. يقول ابن القيم معلقاً على صحة الشروط العمرية: "إن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها ..". يذكر ابن القيم أن علي بن أبي طالب التزم بشروط العهد العمري في علاقته بنصارى نجران. يقول مؤرخنا د. كحيلة، "أن الأمر اختلط على ابن القيم: فقد خلط بين عهد عمر المزعوم وبين عهد النبي (ص) لأهل نجران وتجديد أبي بكر لهذا العهد وتجديد عمر له. إذا كانت علاقة عمر بعهده أوهي من بيت العنكبوت فإن البعض نسبوا هذا العهد إلى عمر بن عبد العزيز مستدلين على ذلك بالشائعات القائلة بأن عمر بن عبد العزيز وضع قيوداً على أهل الذمة في لباسهم وركوبهم وعدم بناء كنائس جديدة فضلاً عن إقصائهم من وظائف الدولة". وهنا يلاحظ د. كحيلة أن هذه الأخبار لا وجود لها في كتب التاريخ بل فقط في كتب الفقه؛ فالبلاذوري، وهو مؤرخ وفقيه معاً، لا يذكر هذه القيود كما أنها لا ترد في كتب مؤرخين نصارى منهم سعيد بن البطريك، أما ابن الراهب فيصف عمر بن عبد العزيز بأنه: "كان في الزهد والعدل والعبادة إلى النهاية ويؤثر دينه على دنياه". "وكما وردت أخبار في شدة عمر بن عبد العزيز مع رعاياه، مسلمين ونصارى، فقد وردت في مصادر أخرى أخبار عن رفقه بأهل الذمة وحفظه لكنائسهم حتى قيل أنهم بكوا عليه يوم وفاته".
يتساءل د. كحيلة عن المسؤول عن انتحال عهد عمر، ويجيب عن ذلك بأن المسؤولية تعود إلى بعض الفقهاء الذين انتحلوا، في عهود التوتر والنزاع بين المسلمين وأهل الذمة، هذه القيود التي نسبت إلى عمر بن الخطاب أو ابن عبد العزيز لإصباغ الشرعية عليها. وكما تؤكد سسيولوجيا المعرفة، فالفقه، كأي نشاط معرفي، نتاج شروط عصره؛ فإن بعض الفقهاء، في بعض العصور اقترحوا نماذج للعلاقات بين الدولة وأهل الذمة. وهكذا تحولت هذه الاقتراحات إلى قيود نسبت لأحد العُمَرين. ويرجح د. عبادة أن مقترحات الإمام الشافعي في كتابه "الأم" لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة في عهده مع أهل الذمة غدت سابقة لبعض الفقهاء وشيئاً فشيئاً تبلورت في ما يسمي بعهد عمر الذي يرجح مؤرخنا أن النسخة الأولي منه ظهرت في النصف الثاني من القرن الثالث لسبب هام هو أننا لا نجد إشارة إلى هذا العهد لا في سياسة هارون الرشيد ولا المتوكل ولا المأمون.
لم يصبح العهد متداولاً إلا في بداية القرن السادس الهجري "بعد الهجمة الصليبية ثم الهجمة التترية وتورط بعض الذميين في الهجمتين".كما يقول كحيلة عندئذ اكتسب العهد، بفضل المناخ الذي أشاعته الحروب الصليبية، مصداقية "الخطأ الشائع" فانتقل من كتب الفقه إلى كتب التاريخ. على إن أقدم إشارة واضحة إلى العهد وقف عليها المؤلف تعود إلى سنة 700 هـ "حين وفد إلى مصر وزير ملك المغرب في طريقه إلى الحج وراعه ما شاهده من ارتفاع أحوال أهل الذمة فأنكر ما شاهده ووصل الخبر إلى السلطان الناصر بن قلاوون" فشدد الخناق على أهل الذمة لتطبيق شروط العهد المنسوب لعمر عليهم.
هذا هو محتوي البحث التاريخي المميز الذي أنجزه أبو أدهم، د. عبادة عبد الرحمن كحيلة. وهو مبادرة ثمينة ونادرة. لماذا؟ ثمينة. لأنها تدشن على حد علمي النقد التاريخي لأصول تراثنا العربي الإسلامي باللغة العربية. نادرة، لأن عبادة الأسلاف، التي تئد كل شجاعة فكرية، مازالت تردع الوعي الإسلامي عن القراءة التاريخية النقدية لتراثه الذي مازالت علاقته به علاقة رق نفسي. لماذا مرة أخرى؟ لأن هذا التراث الخام أي الذي لم يمر على مصفاة النقد التاريخي الذي يحرره من عبادة الأسلاف مازال هو المادة الأساسية في المدرسة الدينية السلفية السائدة في العالم العربي باستثناء تونس التي انتقلت منها إلى المدرسة الدينية العقلانية التي أطّرت دراسة الفقه الإسلامي بعلوم الحداثة مثل تاريخ الأديان المقارن وسسيولوجيا الأديان وعلم النفس والألسنية ..إلخ، التي تحرر الوعي من الرق النفسي للمادة المدروسة.
الأزهر، بدلاً من تدريس كتاب د.عبادة عبد الرحمن كحيلة "عهد عمر: قراءة جديدة" لتلاميذه لفتح وعيهم علي المواطنة الحديثة التي لا تميز بين مواطن ومواطن بسبب الانتماء الديني، فإنه فضل عليه تدريسهم أربعة كتب فقهية كتبت في العصور الوسطي وطبعاً بعقلية وفقه زمانها، منها كتاب "الروض المربع بشرح زاد المستنقع" من تأليف الفقيه الحنبلي منصور البهوتي. هذا الكتاب الذي أُلف منذ أكثر من أربعة قرون يحتوى على جميع الأحكام المسبقة ضد المرأة والعبد وغير المسلم وأهل الكتاب. سنستشهد فقط بتحيزاته ضد هؤلاء الأخيرين التي تلقنها ثانويات الأزهر لتلاميذتها. مثلاً: يقول الكتاب في "باب عقد الذمة وأحكامها": "الذمة لغة العهد والضمان والأمان، ومعني عقد الذمة إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة، والأصل فيها قوله تعالي "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (..) وهي مال يؤخذ على وجه الصغار كل عام بدلاً من قتلهم وإقامتهم بدارنا [أي دار الإسلام]" (1). لم يقل فقيه قط على حد علمي أن الجزية هي بديل عن قتل أهل الذمة أو نفيهم من دار الإسلام، بل أن الفقهاء قالوا إن الجزية هي بدل الخدمة العسكرية في جيش المسلمين. لذلك قرروا أن من يشارك من اليهود أو المسيحيين في الجيش الإسلامي يعفي من الجزية.
كان الله في عون تلامذة الأزهر الذين يرشحهم هذا الفقه المضلل ليخرج منهم عشرات من أمثال مصطفي مشهور الذي طالب الرئيس مبارك بطرد الأقباط من الجيش ومعاملتهم كأهل ذمة ! ثم يفصل الكتاب لتلامذة الأزهر الشروط الظالمة على أهل الذمة، اليهود والمسيحيين الواردة في العهد المنسوب لعمر: "ويُلزَم الإمام أخذ أهل الذمة بحكم الإسلام في ضمان النفس والمال والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه كالزنا (..) لأن عقد الذمة لا يصح إلا بالتزام أحكام الإسلام (..) ويلزمهم التمييز عن المسلمين بالقبور بأن لا يدفنوا في مقابرنا، والحلي بحذف مقدم رؤوسهم لا كعادة الأشراف ونحو شد الزنار ولدخول حمامنا بجلجل أو نحو خاتم رصاص برقابهم ولهم ركوب غير الخيل كالحمير بغير سرج (..) لما روي "الخلال" أن عمر أمر بجز نواصي أهل الجزيرة أن يشدوا المناطق (..) ولا يجوز تصديرهم في المجالس ولا القيام لهم ولا بدئهم بالسلام أو بكيف أصبَحْت أو أمسَيْت أو حالُك، ولا تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم وشهادة أعيادهم لحديث أبي هريرة مرفوعاً "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها"، قال الترمذي في حديث حسن صحيح "ويُمنعون من إحداث كنائس وبيع ومجتمع لصلاة في دارنا ومن بناء ما تهدم منها ولو ظلما" لما روي كثير بن مرة قال سمعت عمر بن الخطاب يقول قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا تبني الكنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها. ويُمنعون أيضاً من تعلية بنيان على مسلم ولو رضي بقوله عليه السلام: الإسلام يعلوا ولا يعلي عليه .." (2) إلى أخر الشروط التي جاءت في العهد المنسوب إلى عمر والتي تشكل في بداية الألفية الثالثة وصفة مثالية لاضطهاد المسيحيين أو لاندلاع حروب دينية.
حتى لا تظل المعاهد الأزهرية حاضنة لتفريخ الحقد على غير المسلمين، أوجه نداء إلى فضيلة شيخ الأزهر د. محمد سيد طنطاوي بأن يمنع تدريس هذا الكتاب والكتب الفقهية الأخرى المماثلة له رحمة بالأزهر وبسكان مصر مسلمين وأقباطا.
المراجع:
(1) علاء قاعود، نحو إصلاح علوم الدين التعليم الأزهري نموذجاً. ص 105، ص 106 الناشر : مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان (دراسات حقوق الإنسان 7) 1996.
(2) نفس المصدر ص 107.
بس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق